فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {ويجعلون لما لا يعلمون نصيبًا}.
قيل الضمير في قوله: {لما لا يعلمون} عائد إلى المشركين يعني أن المشركين لا يعلمون.
وقيل إنه عائد إلى الأصنام يعني أن الأصنام لا تعلم شيئًا البتة لأنها جماد والجماد لا علم له، ومنهم من رجح القول الأول لأن نفي العلم عن الحي حقيقة، وعن الجماد مجاز فكان عود الضمير إلى المشركين أولى، لأنه قال لما لا يعلمون فجمعهم بالواو والنون، وهو جمع لمن يعقل ومنهم من رجع القول الثاني.
قال: لأنا إذا قلنا أنه عائد إلى المشركين احتجنا إلى إضمار فيكون المعنى: ويجعلون يعني المشركين لما لا يعلمون أنه إله ولا إله حتى نصيبًا وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام لم نحتج إلى هذا الاضمار لأنها لا علم لها، ولا فيهم وقوله: {مما رزقناهم} يعني أن المشركين جعلوا للأصنام نصيبًا من حروثهم وأنعامهم وأموالهم التي رزقهم الله، وقد تقدم تفسيره في سورة الأنعام {تالله} أقسم بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة، وهو قوله تعالى: {لتسألن عما كنتم تفترون} يعني عما كنتم تكذبون في الدنيا في قولكم، إن هذه الأصنام آلهة وإن لها نصيبًا من أموالكم، وهذا التفات من الغيبة إلى الحضور، وهو من بديع الكلام وبليغه {ويجعلون لله البنات} هم خزاعة وكنانة قالوا: الملائكة بنات الله وإنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون كالنساء، أو لدخول لفظ التأنيث في تسميتهم {سبحانه} نزه الله نفسه عن الولد والبنات {ولهم ما يشتهون} يعني: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني البنين {وإذا بشر أحدهم بالأنثى} البشارة عبارة عن الخبر السار الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه كان كذلك الحزن، والغم يظهر أثره على الوجه وهو الكمودة التي تعلو الوجه، عند حصول الحزن والغم فثبت بهذا أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار والخبر المحزن، فصح قوله: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا} يعني متغيرًا من الغم والحزن والغيظ والكراهة التي حصلت له عند هذه البشارة، والمعنى أن هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت الأنثى أن تنسب إليه فكيف يرضي أن ينسبها إلى الله تعالى ففيه تبكيت لهم وتوبيخ.
وقوله سبحانه وتعالى: {وهو كظيم} يعني أنه ظل ممتلئًا غمًا وحزنًا {يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به} يعني أنه يختفي من ذلك القول الذي بشر به، وذلك أن العرب كانوا في الجاهلية إذا قربت ولادة زوجة أحدهم، توارى من القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن كان ولدًا ابتهج بذلك وظهر وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أيامًا حتى يفكر ما يصنع بها وهو قوله تعالى: {أيمسكه على هون} يعني على هوان، وإنما ذكر الضمير في أيمسكه لأنه عائد إلى ما بشر به في قوله، وإذا بشر أحدهم {أم يدسه في التراب} يعني أم يخفي الذي بشر به في التراب والدس إخفاء الشيء في الشيء قال أهل التفسير: إن مضر وخزاعة وتميمًا كانوا يدفنون البنات أحياء، والسبب في ذلك إما خوف الفقر وكثر العيال ولزوم النفقة أو الحمية فيخافون عليهن من الأسر ونحوه، أو طمع غير الأكفّاء فيهن فكان الرجل من العرب في الجاهلية، إذا ولدت له بنت أراد أن يستحييها تركها حتى إذا كبرت ألبسها جبة من صوف أو شعر، وجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية، قال لأمها: زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ويكون فد حفر لها حفرة في الصحراء فإذا بلغ بها تلك الحفرة قال لها: انظري إلى هذه البئر فإذا نظرت إليها دفعها من خلفها في تلك البئر، ثم يهيل التراب على رأسها وكان صعصعة عم (1) الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه بإبل إلى والد البنت حتى يحييها بذلك فقال الفرزدق يفتخر بذلك:
وعمي الذي منع الوائدات ** فأحيا الوئيد فلم يوأد

عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوائدة والمؤودة في النار».
أخرجه أبو داود.
وقوله تعالى: {ألا ساء ما يحكمون} يعني بئس ما يصنعون ويقضون حيث يجعلون لله خلقهم البنات، وهم يستنكفون منهن ويجعلون لأنفسهم البنين نظيره قوله سبحانه وتعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذًا قسمه ضيزى} وقيل: معناه ألا ساء ما يحكمون في وأد البنات. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)}.
ويروى: يراوح.
دس الشيء في الشيء أخفاه فيه.
{ويجعلون لما لا يعلمون نصيبًا مما رزقناهم تالله لتسألنّ عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًّا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} الضمير في: ويجعلون، عائد على الكفار.
والظاهر أنه في يعلمون عائد عليهم.
وما هي الأصنام أي: للأصنام التي لا يعلم الكفار أنها تضر وتنفع، أو لا يعلمون في اتخاذها آلهة حجة ولا برهانًا.
وحقيقتها أنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تشفع، فهم جاهلون بها.
وقيل: الضمير في لا يعلمون للأصنام أي: للأصنام التي لا تعلم شيئًا ولا تشعر به، إذ هي جماد لم يقم بها علم البتة.
والنصيب: هو ما جعلوه لها من الحرث والأنعام، قبح تعالى فعلهم ذلك، وهو أن يفردوا نصيبًا مما أنعم به تعالى عليهم لجمادات لا تضر ولا تنفع، ولا تنتفع هي بجعل ذلك النصيب لها، ثم أقسم تعالى على أنه يسألهم عن افترائهم واختلاقهم في إشراكهم مع الله آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها بجعل النصيب لها، والسؤال في الآخرة، أو عند عذاب القبر، أو عند القرب من الموت أقوال.
ولما ذكر الله تعالى أنه يسألهم عن افترائهم، ذكر أنهم مع اتخاذهم آلهة نسبوا إلى الله تعالى التوالد وهو مستحيل، ونسبوا ذلك إليه فيما لم يرتضوه، وتربد وجوههم من نسبته إليهم ويكرهونه أشد الكراهة.
وكانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات الله سبحانه وتنزيه له تعالى عن نسبة الولد إليه، ولهم ما يشتهون: وهم الذكور، وهذه الجملة مبتدأ وخبر.
وقال الزمخشري: ويجوز فيما يشتهون الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفًا على البنات أي: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور انتهى.
وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الفراء والحوفي.
وقال أبو البقاء: وقد حكاه، وفيه نظر.
وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو: وهو أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدّى إلى ضميره المتصل المنصوب، فلا يجوز زيد ضربه زيد، تريد ضرب نفسه إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية، أو فقد، وعدم، فيجوز: زيد ظنه قائمًا وزيد فقده، وزيد عدمه.
والضمير المجرور بالحرف المنصوب المتصل، فلا يجوز زيد غضب عليه تريد غضب على نفسه، فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب إحذ يكون التقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون.
قالوا: وضمير مرفوع، ولهم مجرور باللام، فهو نظير: زيد غضب عليه.
وإذا بشر، المشهور أن البشارة أول خبر يسر، وهنا قد يراد به مطلق الأخبار، أو تغير البشرة، وهو القدر المشترك بين الخبر السار أو المخبرين، وفي هذا تقبيح لنسبتهم إلى الله المنزه عن الولد البنات واحدهم أكره الناس فيهنّ، وأنفرهم طبعًا عنهن.
وظل تكون بمعنى صار، وبمعنى أقام نهارًا على الصفة التي تسند إلى اسمها تحتمل الوجهين.
والأظهر أن يكون بمعنى صار، لأنّ التبشير قد يكون في ليل ونهار، وقد تلحظ الحالة الغالبة.
وأنّ أكثر الولادات تكون بالليل، وتتأخر أخبار المولود له إلى النهار وخصوصًا بالأنثى، فيكون ظلوله على ذلك طول النهار.
واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والتكره والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى.
قيل: إذا قوي الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف، ولاسيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد، فترى الوجه مشرقًا متلألئًا.
وإذا قوي الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه، فيربد الوجه ويصفر ويسود، ويظهر فيه أثر الأرضية، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه، ومن لوازم الغم والحزن اربداده واسوداده، فلذلك كنى عن الفرح بالاستنارة، وعن الغم بالاسوداد.
وهو كظيم أي: ممتلىء القلب حزنًا وغمًّا.
أخبر عما يظهر في وجهه وعن ما يجنه في قلبه.
وكظيم يحتمل أن يكون للمبالغة، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول لقوله: {وهو مكظوم} ويقال: سقاء.
مكظوم، أي مملوء مشدود الفم.
وروى الأصمعي أنّ امرأة ولدت بنتًا سمتها الذلفاء، فهجرها زوجها فقالت:
ما لأبي الذلقاء لا يأتينا ** يظل في البيت الذي يلينا

يحردان لا نلد البنينا ** وإنما نأخذ ما يعطينا

يتوارى: يختفي من الناس، ومن سوء للتعليل أي: الحال له على التواري هو سوء ما أخبر به، وقد كان بعضهم في الجاهلية يتوارى حالة الطلق، فإن أخبر بذكر ابتهج، أو أنثى حزن.
وتوارى أيامًا يدبر فيها ما يصنع.
أيمسكه قبله حال محذوفة دل عليها المعنى، والتقدير: مفكرًا أو مدبرًا أيمسكه؟ وذكر الضمير ملاحظة للفظ ما في قوله: {من سوء ما بشر به}.
وقرأ الجحدري: {أيمسكها على هوان أم يدسها} بالتأنيث عودًا على قوله: بالأنثى، أو على معنى ما بشر به، وافقه عيسى على قراءة هوان على وزن فعال.
وقرأت فرقة: {أيمسكه} بضمير التذكير، {أم يدسها} بضمير التأنيث.
وقرأت فرقة: {على هون} بفتح الهاء.
وقرأ الأعمش: {على سوء} وهي عندي تفسير لا قراءة، لمخالفتها السواد المجمع عليه.
ومعنى الإمساك حبسه وتربيته، والهون الهوان كما قال: {عذاب الهون} والهون بالفتح الرفق واللبن، {يمشون على الأرض هونًا} وفي قوله: {على هون} قولان: أحدهما: أنه حال من الفاعل، وهو مروي عن ابن عباس.
قال ابن عباس: إنه صفة للأب، والمعنى: أيمسكها مع رضاه بهوان نفسه، وعلى رغم أنفه؟ وقيل: حال من المفعول أي: أيمسكها مهانة ذليلة، والظاهر من قوله: {أم يدسه في التراب} إنه يئدها وهو دفنها حية حتى تموت.
وقيل: دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس في التراب.
والظاهر من قوله: {ألا ساء ما يحكمون} رجوعه إلى قوله: {ويجعلون لله البنات} الآية أي: ساء ما يحكمون في نسبتهم إلى الله ما هو مستكره عندهم، نافر عنهن طبعهم، بحيث لا يحتملون نسبتهن إليهن، ويئدونهن استنكافًا منهن، وينسبون إليهم الذكر كما قال: {ألكم الذكر وله الأنثى} وقال ابن عطية: ومعنى الآية يدبر أيمسك هذه الأنثى على هوان يتجلد له، أم يئدها فيدفنها حية فهو الدس في التراب؟ ثم استقبح الله سوء فعلهم وحكمهم بهذا في بناتهم ورزق الجميع على الله انتهى.
فعلق ألا ساء ما يحكمون بصنعهم في بناتهم مثل السوء. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَيَجْعَلُونَ}.
لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعدادًا لجناياتهم أي يفعلون ما يفعلون من الجُؤار إلى الله تعالى عند مِساس الضرر ومن الإشراك به عند كشفِه ويجعلون {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} أي لما لا يعلمون حقيقتَه وقدرَه الخسيسَ من الجمادات التي يتخذونها شركاء لله سبحانه جهالةً وسَفاهةً ويزعُمون أنها تنفعهم وتشفعَ لهم، على أن ما موصولةٌ والعائدُ إليها محذوف، أو لما لا علم له أصلًا وليس من شأنه ذلك فما موصولةٌ أيضًا والعائدُ إليها ما في الفعل من الضمير المستكنْ، وصيغةُ جمعِ العقلاء لكون {ما} عبارةً عن آلهتهم التي وصفوها بصفات العقلاء، أو مصدريةٌ واللامُ للتعليل أي لعدم علمِهم والمجعولُ له محذوفٌ للعلم بمكانه {نَصِيبًا مّمّا رزقناهم} من الزرع والأنعام وغيرِهما تقربًا إليها {تالله لَتُسْئَلُنَّ} سؤالَ توبيخٍ وتقريع {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} في الدنيا بآلهة حقيقةٍ بأن يُتقرَّب إليها، وفي تصدير الجملةِ بالقسم وصرفِ الكلامِ من الغَيبة إلى الخطاب المنبىءِ عن كمال الغضبِ من شدة الوعيد ما لا يخفى.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنَاتِ} هم خُزاعةُ وكِنانةُ الذين يقولون: الملائكةُ بناتُ الله {سبحانه} تنزيهٌ له عز وجل عن مضمون قولِهم ذلك أو تعجيبٌ من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} من البنين، و{ما} مرفوعةُ المحلِّ على أنه مبتدأٌ والظرفُ المقدمُ خبرُه، والجملةُ حاليةٌ وسبحانه اعتراضٌ في حق موقعِه، وجعلُها منصوبةً بالعطف على البنات أي يجعلون لأنفسهم ما يشتهون من البنين يؤدّي إلى جعل الجعْلِ بمعنى يعمّ الزعمَ والاختيارَ.
{وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالانثى} أي أخبر بولادتها {ظَلَّ وَجْهُهُ} أي صار أو دام النهارَ كلَّه {مُسْوَدّا} من الكآبة والحياء من الناس، واسودادُ الوجه كنايةٌ عن الاغتمام والتشويش {وَهُوَ كَظِيمٌ} ممتلىءٌ حَنقًا وغيظًا.
{يتوارى} أي يستخفي {مِنَ القوم مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ} من أجل سوئِه، والتعبيرُ عنها بما لإسقاطها عن درجة العقلاء {أَيُمْسِكُهُ} أي مترددًا في أمره محدّثًا نفسَه في شأنه أيمسكه {على هُونٍ} ذل، وقرئ {هوانٍ} {أَمْ يَدُسُّهُ} يُخفيه {فِى التراب} بالوأد، والتذكيرُ باعتبار لفظ ما، وقرئ بالتأنيث {أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} حيث يجعلون ما هذا شأنُه عندهم من الهُون والحقارة لله المتعالي عن الصاحبة والولد، والحالُ أنهم يتحاشَون عنه ويختارون لأنفسهم البنين، فمدارُ الخطأ جعلُهم ذلك لله سبحانه مع إبائهم إياه لا جعلُهم البنين لأنفسهم ولا عدمُ جعلهم له سبحانه، ويجوز أن يكون مدارُه التعكيس لقوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى}. اهـ.